..

أوجاعك الطيبات (3)

واصلا احبك

وإنني أستطيع رؤيته وهو يبتسم ويقرأ بالغرور الذي تعشقينه فيه "وأصلا أحبك"
هو لم يكن رجلا عاديا لذلك أستطيع أن أتخيله ك سوبرمان عربي يعشق التبجيل
يطير فرحا إذا ما أحببته أكثر وينفخ إعصارا إذا ما ابتعدت عنه أكثر
كطوفان دنياك الأول أتى على أخضرك ويابسك ولم يترك غير الذي يؤمن به
ولأنه غير عاد فأنا يمكنني أن أتخيله ابن بطوطة عالمك يجيد وصف تاريخك الذي ضاع منك من قبل
يرى الطقوس المظلمة التي تعيشينها فينقلها إلى عالمه المشمس ليراها بوضوح أكثر فيعيد كتابة التاريخ الذي لم يعجبه ويصنع بطولات كانت ضعفا و يرسم انتصارات كانت خسارة
وأستطيع إن اسمعه يعقب على كل سطر تكتبينه فيه قائلا "أنت مجنونة"
حين قرأ هذه "لماذا أحببتك وأنا أعي تماما أن هذا الحب خافت... صعلوك يتسكع على طرقات القدر, يبحث عن فرجة باب يلج منها .. وعندما يرهقه البحث يخرج قلمه الصغير الأسود ليتمرد في الجدار"
فلقد قال -وخيالي لا يخطئ- " أنا الجدار الذي يتمرد عليه قلم حبك الخافت .. ولقد مرت عليّ أقلام كثيرة, كلها قد محا الزمن ما خطته عليّ, لان مدادها لم يكن قد جف بعد, ولكن أنت أنت يا سيدتي حبك الباهت حين حاول أن يكتب علي ما يشتهي, لم يستطع لأن قلمه كان قد جف من كثرة البكاء فاضطر إلى أن ينقش جنونه عليّ نقشا لا يراه إلا من اقترب مني أكثر ولأني أعلم أن الجدران الآهلة للسقوط لا يقترب منها أحد فأنا أعلم أنه لا أحد يستطيع أن يقرأ ما كتبه حبك الباهت على صفحتي"
غروره يحييك يا سيدتي ولكنه حين يقرأ ما كتبته عنه يتهافت, وما تنتظرين من جدار لم يحافظ على غير نقش حبك الخافت؟ كأنه شق كبير ينبئ الناظر إليه انه سينهار..
عن وجه قلب هو يفتقدك -هكذا أتخيله-
وفي كل مرة يقرأ سطرا مما كتبته عنه يقول "أنت مجنونة"
لأنك لا تعلمين أن النقش الذي نقشته عليه قسمه إلى نصفين, نصف يراه هو ونصف يراه أنت ولذلك قال لك ذات مرة "أنت تشبهينني"
ولأنك لا تفهمين الحب المشتعل الذي زرعه فيه حبك الباهت فهو لازال يردد "أنت مجنونة"
لأنك لم تدركي حين كنت تجوبين مدن الشتاء أن تلك الأمطار الحارقة التي تنزل عليك فتكويك كانت دموعه, وأعمدة الإنارة كانت عيونه, و جميع ما في الشجرة كان حضنه.
أراه سوبرمانا يرتدي السواد مثلك  ويضع على صدره علامة الانكسار "الحرف الأول من حزن"
ويبكي...
يبكي حين يقرأ ما تكتبين
ويأسف على أنه ذات يوم مررت بجانبه وكان مجرد جدار نُقِشتْ فوقه "أصلا أحبك"


خبر عاجل
منقول عن مجلة علوم عشقية


"أصلا أحبك" كان أول قلب يزرع في جدار ليبث فيه الحياة!!!


                                                                                                                                                   يتبع...

أوجاعك الطيبات (2)


موجع هذا الطفل يا سيدتي حين يهرج
وشقي جدا
و في كل ليلة يرغمني على  أن احمله رغم التعب الذي أعود به محملا إلى المنزل  فأقرأ سطرا وأغفو سطرا كالطفل الجالس على أرجوحة يتأرجح في لحظة يطير وفي لحظة يهوي
ولقد كنت وعدت نفسي أني حين يصلني كتابك أتخذه صديق وحدتي ورفيق رحلتي نحو الاغتراب لذلك كلما استيقظَ وشدَّ كتفي ليوقظني ألبي رغبته وأحمله فوق صدري وأحادثه ويحادثني إلى ألا أعلم من سبق الأخر إلى النوم
ولا أدري وأنا بين يديه أأنا الطفل وهو يقرأ لي الحكايا لأنام, أم أنه هو الطفل ويعشق أن يطير النوم من عيني ليشعر أني أحبه أكثر مني!
وإني أحببته ...!
أحببت لونه الترابي حتى صار مقبرتي حين أعشق الموت.
وأحببت أوراقه المصفرة التي تشعرني أني احمل بين يدي كتابا من كتب الزمن الغابر تحمل فيها سرا من اسرار الوجود.
وأحببت العناوين الداخلية التي تحفز مخيلتي وتستحثها على التطلع إلى ما بعد العنوان,
تصدمني عناوينك يا سيدتي
توجعني عناوينك... 
المهرج.   J 
فأن أقرأ عنوان "المهرج", هذا يعني أني سأضحك.
ولكن عناوينك تخدعني سيدتي, حيث أظن أني حين أركب تاكسي لهفتي سيقودني الأمر إلى قصر من الضحك ولكن المفاجأة تقودني إلى كوخ الحزن الجميل حيث في الكوخ ترقد السعادة الهنيّة .
أذكر نكتة مصرية تحكي أن مهرجا قال لأمه "ادعي لي يا مّا , أقدر أضحك الناس" فقالت له بالبساطة التي تحملها الدنيا "روح يا بني ربنا يضحك عليك خلقه"
فكما لا نفرق بين إن كان الدعاء له أم عليه, فكذلك لا نفرق بين إن كنا نضحك أم نبكي
ففي صورة جامد لشخصين احدهما يبكي بحرقة والآخر يضحك بشدة لا نجد فرقا وقد نخلط بينهما فنتوهم أن الضاحك باك والباكي ضاحك
وعلى هذا يلعب المهرج...
بارع جدا في إخفاء سواد أيامه لإظهار وجهه المبيض ومدهش جدا حين يرسم ضحكة حد أذنيه والحزن منكوت في قلبه حد عينيه .
"أنت تبكيني"
إنه القرص المهدئ الذي شربته قبل هذه الوجبة الحرفية الدسمة, انه السطر الذي يستحق أن يكون عنوانا بعد "المهرج" فكلاهما يصبان في بحر واحد وكلاهما شمس حارقة غير أن "المهرج" أخفته غيوم غفلتنا و "أنت تبكيني" أثبته صيف واقعنا.
و الحياة سيرك كبير للغاية
و أغلب الناس فيه لهم دور معين تجاه الآخرين  فهذا مهمته إرعابهم والأخر مهمته إتعابهم أو إضحاكهم أو تسليتهم أو إشعارهم بالضجر فكل مهرج على قدر إتقانه لجنونه أو غبائه.
غير أن هناك من يهرج فيذيب ذاته لينير الناس وهناك من يهرج فيذيب الناس ليستنير.
والمهرج الذي تكتبين عنه أراه يذوب يا سيدتي, ينصهر بأكثر مما تنصهر به الشمعة, ينصهر بفوران بركان, ينصهر حد عدم التمييز بين الثانية عشر ظهرا و الثانية عشر ليلا.
وكيف لا تذيبين ذاتك يا سيدتي وأنت القائلة " أتسلق الأماكن العالية-الصعبة علي- رغما عني, أتظاهر بالشجاعة وقلبي يسقط مني مع كل درجة صعود"؟
وأنت القائلة " أصفع البكاء على وجهه وأضحك... ويصفق الجميع"؟
إنها بعض الألعاب السحرية التي يدهشنا بها المهرج دون أن نتساءل  عما إذا كان هو الآخر مندهش كما اندهاشنا ومستمتع كما استمتاعنا...
ياااه ...
أقرأ السطور وأغفو ثم استيقظ وابحث عن آخر سطر قرأته وأثناء البحث أقرأ أول سطر...
"أنت تبكيني"
ولماذا أبكي؟
لِمَ البكاء وأنا بين الجمع يضحكون؟
لِمَ أركز على شفاه المهرج الحقيقية وهو قد رسم على وجهه فما عريضا أحمر يضحك ملأ حزنه؟
و الشمس كما قلت من قبل تشرق بعد أن نتوقع أنها ماتت غارقة
تفاجئنا بسحرها وهي تطفو وتصعد إلى السماء من غير سلم
فلماذا نبكي؟ والظلام قد تلاشى؟
لماذا نبكي والمهرج يضحك؟

لماذا نبكي والدنيا كلها تحب التهريج؟


يتبع...

اوجاعك الطيبات (1)



يا سيدتي إن الأمر غريب عني, ولم أخبره من قبل حتى أكون أهلا للتعليق...
فليس من المتوفر لدي بسهولة أن ألامس كتابا خطت حروفَه أناملُك وليس من المألوف لدي أن يأتيني الكتاب وقد تحملت أوراقُه أوجاعَك.
ولأن اللامألوف في شرعي جنون إلى أن أتعود عليه,
  فتقبلي جنوني
أهديك إياه في سطور خجلة وأنا كلي أسف لأني لن أكون قادرا على أن أقابل إحسانك بإحسان فأنت قد أهديتني حزنا وأنا لا أهديك سوى كلام وأنت أنزلت من العين دمعا وأنا ما كتبت إلا لتتعب عيناك فتنام
فتقبلي تعبي
ولأني قد وعدتك جنونا فهذا الذي سميتِه "أوجاعي الطيبات" طفل في نظري إلى أن تثبتي أنه لا عكس.
وأن أتخيله طفلا ليس محض صدفة, فالأوجاع دائما تأتي مصحوبة بصراخ والأطفال يأتون دائما مصحوبين بصراخ إلا اللذين كتب عليهم أن يكونوا أمواتا, وكتابك سيدتي لم يولد ليكون ميتا, فالحي عندي ما كان حوله  الحزن فتبسَّم.
 وهذا ما لمسته في كتابك...!
خذي مثلا الغلاف الجميل  صاحب الجدار المتآكل  واليد المتشققة المتآكلة كأنها يد الزومبي ينبش قبره من أسفل حتى يتطلع إلى الدنيا من جديد, إنها الحياة الحقة فليس الحي عندي من وجد الحياة عنده كما تحلو له, ولكن الحي الذي وجد الموت يأتيه من كل صوب  فيتحسسه في كل مرة لعله يفهم سر الوجود.
وخذي مثلا عنوان كتابك الطيب صاحب الأوجاع الطيبة, كيف كتب المصمم العنوان بلون ابيض رغم أن خيال المرء يهرب به إلى السواد كلما سمع كلمة "وجع" دون أن ننسى أن تلك "الطيبات" التي جاءت بعد "أوجاعي" صادمة صادمة صادمة...
كيف يجتمع المتناقضان ؟وكيف يقَبِّل الصبح جبهة السَّحَر؟
هنا السر وهنا السِّحر... لأن أجمل أوقات اليوم يا سيدتي وقت تغرق فيه الشمس في البحر لتأكلها الأسماك.
وأجمل أوقات اليوم يا سيدتي وقت تطفو الشمس فوق سطح البحر لتخبرنا أنها صديقة للأسماك..!
لحظتان فقط يا سيدتي تشعراني برهبة اليوم... النهاية ثم البداية
لذلك بعد أن حاورت غلاف الكتاب كثيرا فضلت أن أبدأ من النهاية.

ذاك المساء :(
إنها فعلا  تمثل الحقيقة التي تخيلتها...  النهاية دائما تنتهي بغروب حزين جميل.
وكذلك الشمس تفعل كما تفعلين, تستقيل قبل إتمام مراسم الدفن في البحر و تطلق رصاصات متلألئة على دفتر السماء كأن تلك النجوم بعض من هذه الشمس, لازالت تصر على التعلق بالصفحة المظلمة لتتم بوح الشمس لكن في صمت
تلك الرصاصات يا سيدتي التي تودين إطلاقها على دفاترك هي الكلام القليل الذي يحمل المعنى الكثير
وهل هناك فرق بين كلماتك والرصاصات؟
إنهما تلعبان نفس الدور حيث تدخلاننا في الحياة عن طريق الموت
وهل هناك فرق بين  دفترك والسماء؟
على صفحة كتابك هذا يا سيدتي يوجد مطر وثلج وسحب و شمس وطيور ونجوم وقنبلة
ولقد كتبتِ غاضبة تعترفين أنك بعد إطلاق الرصاص ستكتبين في قصاصة أن كل ما كتبته محض كذب
وإنني والله لأصدق اعترافك
كل ما نكتبه كذب. وهذا ليس يعني أنك لو كنت تكتبين حزنا فحزنك كذب وأنت من القوم الفرحين
إن الأمر أشبه  برجل وشمس  وارض وظل
وكأن الرجل هو الكاتب والشمس هي الفكرة  والأرض هي الدفتر والظل هو الكتابة
انظري إلى الشمس كلما ابتعدت وتلطفت على الرجل إما غربا أو شرقا ارتسم ظله طويلا أطول من طوله الحقيقي
ثم انظري إلى الشمس كلما اقتربت وقست على الرجل  في موضع شاقولي بينهما ارتسم الظل قصيرا جدا جدا إلى أن يختفي وكان هذا أقصر من طوله الحقيقي
وكذلك هي الفكرة الحزينة والكاتب والكتابة
كلما كانت الفكرة لطيفة بعيدة عن شعور  الكاتب  يشعر انه بالغ وكتب عنها بثقل اكبر من ثقلها عليه, وكلما كانت الفكرة قاسية  ثقيلة عليه شعر أن كل ما كتبه  لا يعادل ما انكتب فيه.
وإني أرى أن حزنك أكبر مما تكتبين.... هو أقرب جدا من قرب الشمس إلى ذلك الرجل,  لذلك لا عجب أن تري أن كل ما نكتبه محض كذب  وان ابلغ ما يمكننا أن نعبر به عن تعاستنا  هي رصاصة نطلقها على دفتر, والقارئ اللبيب يجب أن يموت...
ست عشرة كلمة منها موت ودفن وقبر وشاهد...
هل أنت بخير يا سيدتي؟
إن ما تكتبينه زلزال نتج عن انفجار بركان, وإن هذا الكتاب - الذي أراه طفلا - متعب جدا وصراخه مميت قليلا...
واني قد مت قليلا هذا الصباح
مت بشكل متعب جدا
مت حزينا
مت مثل ضحايا قنبلة
مت دفعة واحدة
مت شبعانا بحزنك
مت وقد تثاقلت سنابلي
مت ونجومك تتساقط على صدري
رصاصة رصاصة
مت وقد أحسست الموت الذي يتجدد في كل لحظة دون أن تكون له نهاية, ليست جميلة بالمرة - يا سيدتي- رحلة في قطار موت دون أن تكون له محطة استراحة.
مت وقد تذوقت معنى أن يكرر المرء كلمة "مت" في كل مرة , حيث أن قبل نطقها يظن أنها دواءه وحين ينطقها يكتشف أن جرعة واحدة لا تكفيه, فيزيد الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة,  ويبحث عن أدوية أخرى من نفس الشركة  فيأخذ  قرص "شاهد" وحبة "دفن" وملعقة صغيرة جدا جدا من "قبر"
مت - يا سيدتي- وقد أدخلت داخلي سبعين نوعا من حزن وأخرجت نوعا واحدا من دمع...!

يتبع...

.

.