..

اوجاعك الطيبات (1)



يا سيدتي إن الأمر غريب عني, ولم أخبره من قبل حتى أكون أهلا للتعليق...
فليس من المتوفر لدي بسهولة أن ألامس كتابا خطت حروفَه أناملُك وليس من المألوف لدي أن يأتيني الكتاب وقد تحملت أوراقُه أوجاعَك.
ولأن اللامألوف في شرعي جنون إلى أن أتعود عليه,
  فتقبلي جنوني
أهديك إياه في سطور خجلة وأنا كلي أسف لأني لن أكون قادرا على أن أقابل إحسانك بإحسان فأنت قد أهديتني حزنا وأنا لا أهديك سوى كلام وأنت أنزلت من العين دمعا وأنا ما كتبت إلا لتتعب عيناك فتنام
فتقبلي تعبي
ولأني قد وعدتك جنونا فهذا الذي سميتِه "أوجاعي الطيبات" طفل في نظري إلى أن تثبتي أنه لا عكس.
وأن أتخيله طفلا ليس محض صدفة, فالأوجاع دائما تأتي مصحوبة بصراخ والأطفال يأتون دائما مصحوبين بصراخ إلا اللذين كتب عليهم أن يكونوا أمواتا, وكتابك سيدتي لم يولد ليكون ميتا, فالحي عندي ما كان حوله  الحزن فتبسَّم.
 وهذا ما لمسته في كتابك...!
خذي مثلا الغلاف الجميل  صاحب الجدار المتآكل  واليد المتشققة المتآكلة كأنها يد الزومبي ينبش قبره من أسفل حتى يتطلع إلى الدنيا من جديد, إنها الحياة الحقة فليس الحي عندي من وجد الحياة عنده كما تحلو له, ولكن الحي الذي وجد الموت يأتيه من كل صوب  فيتحسسه في كل مرة لعله يفهم سر الوجود.
وخذي مثلا عنوان كتابك الطيب صاحب الأوجاع الطيبة, كيف كتب المصمم العنوان بلون ابيض رغم أن خيال المرء يهرب به إلى السواد كلما سمع كلمة "وجع" دون أن ننسى أن تلك "الطيبات" التي جاءت بعد "أوجاعي" صادمة صادمة صادمة...
كيف يجتمع المتناقضان ؟وكيف يقَبِّل الصبح جبهة السَّحَر؟
هنا السر وهنا السِّحر... لأن أجمل أوقات اليوم يا سيدتي وقت تغرق فيه الشمس في البحر لتأكلها الأسماك.
وأجمل أوقات اليوم يا سيدتي وقت تطفو الشمس فوق سطح البحر لتخبرنا أنها صديقة للأسماك..!
لحظتان فقط يا سيدتي تشعراني برهبة اليوم... النهاية ثم البداية
لذلك بعد أن حاورت غلاف الكتاب كثيرا فضلت أن أبدأ من النهاية.

ذاك المساء :(
إنها فعلا  تمثل الحقيقة التي تخيلتها...  النهاية دائما تنتهي بغروب حزين جميل.
وكذلك الشمس تفعل كما تفعلين, تستقيل قبل إتمام مراسم الدفن في البحر و تطلق رصاصات متلألئة على دفتر السماء كأن تلك النجوم بعض من هذه الشمس, لازالت تصر على التعلق بالصفحة المظلمة لتتم بوح الشمس لكن في صمت
تلك الرصاصات يا سيدتي التي تودين إطلاقها على دفاترك هي الكلام القليل الذي يحمل المعنى الكثير
وهل هناك فرق بين كلماتك والرصاصات؟
إنهما تلعبان نفس الدور حيث تدخلاننا في الحياة عن طريق الموت
وهل هناك فرق بين  دفترك والسماء؟
على صفحة كتابك هذا يا سيدتي يوجد مطر وثلج وسحب و شمس وطيور ونجوم وقنبلة
ولقد كتبتِ غاضبة تعترفين أنك بعد إطلاق الرصاص ستكتبين في قصاصة أن كل ما كتبته محض كذب
وإنني والله لأصدق اعترافك
كل ما نكتبه كذب. وهذا ليس يعني أنك لو كنت تكتبين حزنا فحزنك كذب وأنت من القوم الفرحين
إن الأمر أشبه  برجل وشمس  وارض وظل
وكأن الرجل هو الكاتب والشمس هي الفكرة  والأرض هي الدفتر والظل هو الكتابة
انظري إلى الشمس كلما ابتعدت وتلطفت على الرجل إما غربا أو شرقا ارتسم ظله طويلا أطول من طوله الحقيقي
ثم انظري إلى الشمس كلما اقتربت وقست على الرجل  في موضع شاقولي بينهما ارتسم الظل قصيرا جدا جدا إلى أن يختفي وكان هذا أقصر من طوله الحقيقي
وكذلك هي الفكرة الحزينة والكاتب والكتابة
كلما كانت الفكرة لطيفة بعيدة عن شعور  الكاتب  يشعر انه بالغ وكتب عنها بثقل اكبر من ثقلها عليه, وكلما كانت الفكرة قاسية  ثقيلة عليه شعر أن كل ما كتبه  لا يعادل ما انكتب فيه.
وإني أرى أن حزنك أكبر مما تكتبين.... هو أقرب جدا من قرب الشمس إلى ذلك الرجل,  لذلك لا عجب أن تري أن كل ما نكتبه محض كذب  وان ابلغ ما يمكننا أن نعبر به عن تعاستنا  هي رصاصة نطلقها على دفتر, والقارئ اللبيب يجب أن يموت...
ست عشرة كلمة منها موت ودفن وقبر وشاهد...
هل أنت بخير يا سيدتي؟
إن ما تكتبينه زلزال نتج عن انفجار بركان, وإن هذا الكتاب - الذي أراه طفلا - متعب جدا وصراخه مميت قليلا...
واني قد مت قليلا هذا الصباح
مت بشكل متعب جدا
مت حزينا
مت مثل ضحايا قنبلة
مت دفعة واحدة
مت شبعانا بحزنك
مت وقد تثاقلت سنابلي
مت ونجومك تتساقط على صدري
رصاصة رصاصة
مت وقد أحسست الموت الذي يتجدد في كل لحظة دون أن تكون له نهاية, ليست جميلة بالمرة - يا سيدتي- رحلة في قطار موت دون أن تكون له محطة استراحة.
مت وقد تذوقت معنى أن يكرر المرء كلمة "مت" في كل مرة , حيث أن قبل نطقها يظن أنها دواءه وحين ينطقها يكتشف أن جرعة واحدة لا تكفيه, فيزيد الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة,  ويبحث عن أدوية أخرى من نفس الشركة  فيأخذ  قرص "شاهد" وحبة "دفن" وملعقة صغيرة جدا جدا من "قبر"
مت - يا سيدتي- وقد أدخلت داخلي سبعين نوعا من حزن وأخرجت نوعا واحدا من دمع...!

يتبع...

.

.